السبت، ١٩ شعبان ١٤٢٨ هـ

أحداث دارفور ... من أين وإلى أين؟


د. مصعب الطيب – موفع المشكاة
ظل الوضع الحرج والمنعطف التاريخي الدقيق الذي يعيشه السودان برزت (معضلة أخرى) مكانها هذه المرة هي إقليم دارفور «المسلم» غربي البلاد؛ ففي أقل من سنتين خلفت النزاعات الدامية بالإقليم أكثر من 3000 قتيل ومليون نازح وآلاف القرى المحروقة، وتمددت انعكاساتها لتؤثر على الوضع التفاوضي للحكومة في «نيفاشا» وعلى تماسك البنية الاجتماعية والسياسية للقطر، وعلى الاستقرار الإقليمي في وسط إفريقيا.
` لمحة عامة:
تبلغ مساحة دارفور (510 ألف كم2) بما يعادل خُمْس مساحة السودان، ويقترب عدد سكانها من ستة ملايين نسمة هي خُمس إجمالي سكان السودان أيضاً. وتقع في أقصى الغرب على الحدود مع ليبيا وتشاد وأفريقيا الوسطى، وتقسم إدارياً إلى ثلاث ولايات هي شمال وجنوب وغرب دارفور. تضم دارفور أكثر من مائة قبيلة جرت العادة على تقسيمها إلى ما يعرف (بالقبائل الأفريقية) التي تحترف الزراعة، ومنها قبائل الفور والزغاوة والمساليت والميدوب.. وإلى (القبائل العربية) التي تمتهن الرعي مثل الرزيقات والهبانية والجوامعة والمهيريا والمعاليا.
لقد حكمت (سلطنة الفور) الإسلامية هذا الإقليم من عام1650م وحتى 1874م حين دخلت في سلطان الدولة العثمانية الذي لم يدم إلا بضع سنين، ثم استمرت (السلطنة) من زوال الدولة المهدية عام 1898م وحتى سقوطها بيد الإنجليز عام 1916م كآخر منطقة تنضم لدولة السودان.
لم تشهد منطقة دارفور في تاريخها الحديث هدوءاً واستقراراً معتبراً؛ فابتداء بحروب (الزبير باشا) على المنطقة عام 1874م، ثم الثورات المتتالية على حكمه. و (ثورة أبو جميزة) على الدولة المهدية في سبتمبر 1888م، ثم ثورات (الفكي عبد الله السحيني) عام 1921م، و (السلطان هارون) بجبل مرة و (مادبو) بالضعين و (البقارة) ضد الحكم الإنجليزي؛ حتى إن الجنرال الإنجليزي «غوردون باشا» اقترح في مؤتمر برلين عام 1884م ضم إقليم دارفور للمستعمرات الفرنسية. ثم انتفاضة دارفور على حكومة مايو 1981م، وانتهاء بالتمرد الذي قاده المهندس يحيى داوود بولاد (الأمين العام للجبهة الإسلامية في دارفور) على حكومة الإنقاذ في 1991م؛ هذا فضلاً عن النزاعات القبلية والانفلات الأمني والصراعات الإقليمية.
لقد كان لهذه الثورات والصراعات ثمن باهظ دفعه أبناء الإقليم، وكانت حسماً كبيراً من حركة التنمية والازدهار. وقبل التطرق إلى لب الصراع الحالي يجدر بنا فهم (الأرضية) التي تتشكل فيها الأحداث والمؤثرات التي تدخل في تكوينها.
` المكون الداخلي للأزمة:
أولاً: (النزاعات القبلية) سمة لازمت الإقليم منذ عهد بعيد، وبتفاوت ملحوظ؛ فخلال العشرين عاماً الأخيرة ـ وحدها ـ ظهر العديد من النزاعات القبلية؛ ففي بداية السبعينيات جرت نـزاعــات بين (المعاليا والرزيقـات)، ثم (الرزيقات والمســيرية) و (التعايشة والسلامات) أواخر السبعينيات، ثم (الزغاوة والفور) عام1982م، و (الفلاتة والقمر) عام 1996م، وأخيراً (المساليت والفور ضد ما يعرف بالقبائل العربية) منذ 1998م. ويبدو واضحاً أن تلك الاحتكاكات ليس لها بُعد عرقي؛ لأنها تحدث أحياناً بين أبناء الأصل الواحد كما تحدث تحالفات بين قبائل من أصول مختلفة؛ ومن هنا فوصف هذه الصراعات بأنها تطهير عرقي أو إعطاؤها واجهة عنصرية لا يعبر إلا عن الانتهازية السياسية، ومحاولة غير أخلاقية لتأليب أبناء القبائل بعضهم ضد بعض، ولكسب تعاطف المنظمات والمجتمع الدولي.
ثانياً: رغم المستوى المتدني للخدمات في كل الأقاليم الطرفية في السودان إلا أنه كان أكثر بروزاً في هذا الإقليم، وهو الأمر الذي ولَّد شعوراً عميقاً بالاستهداف والتهميش.
إن انعدام البنية التحتية للصناعة والتجارة والتعليم والنقل هو المسؤول إلى حد بعيد عن تكريس الصراع حول الأراضي الزراعية والمرعى والثروة الحيوانية، وعن سيادة الانتماء القبلي على الانتماء للأمة، وعن التركيبة الاجتماعية الهشة، وهو المسؤول عن ضعف الاستقرار الغذائي والعمراني وعن ضحالة التفاعل والتكامل مع سائر الأقاليم؛ كما أن ضعف الوجود الحكومي بكل مؤسساته هو سبب مباشر للانفلات الأمني وتصاعد النهب المسلح، وتزايد المظالم بين القبائل.
ثالثاً: الجفاف والهجرات التي ضربت الإقليم منذ عام 1973م زادت من فرص الاحتكاكات العشائرية حول المياه والمرعى، وهو ما تفاقم أيضاً بالحركة عبر الحدود مع دول وسط أفريقيا.
رابعاً: الدور الحزبي له تأثير بالغ في مجريات الصراع في الإقليم، والذي كثيراً ما يوظف كأداة للدعاية السياسية والكيد والمزايدات مما أضر بقضايا المنطقة وبمسيرة البلاد؛ وليس لهـذه الأحــزاب أي بناء ثقافـي أو تأهيلي يستوعب أبناء المنطقة، بل هي لا تبدي أي اهتمام بالإقليم إلا حين يكون له قيمة سياسية مؤثرة.
خامساً: تعمل (الحركة الشعبية لتحرير السودان المتمردة) منذ تكوينها مع أي طرف يحارب الحكومة المركزية أو يسعى للانفصال كما فعلت مع حركة المهندس «بولاد» عام 1991م، وكما تفعل الآن مع مسلحي أقاليم جنوب النيل الأزرق وأبيي وجنوب كردفان ومناطق البجا بشرق السودان، وهي تريد فرض وصايتها وبسط يدها على تلك المناطق بشكل يخدم أهدافها ويحقق أطماعها، والحركة لا تخفي مساندتها لمتمردي دارفور الذين بدورهم لا يتبرؤون منه، وقد أقيم في (هنجتن) بألمانيا مؤتمر سمي «مؤتمر القوى المهمشة» في 4/4/2003م، رأسه عضو الحركة «الدو أجو دينق» وضم حركة تحرير دارفور وقيادات من المؤتمر الشعبي وحزب التحالف الفدرالي وحركة العدالة والمساواة، وقد أشاد المؤتمر بالمواقف الوطنية والسيرة النضالية للحركة الشعبية!
` المكون الخارجي للأزمة:
تمثل منطقة دارفور الفناء الخلفي لنزاعات وسط أفريقيا؛ وذلك نظراً لحدودها المفتوحة ولمساحتها الشاسعة ـ التي تعادل مساحة فرنسا ـ ولضعف السلطة الحكومية في تلك النواحي. فالمنطقة تشكل عمقاً استراتيجياً لدولة تشاد التي تشترك معها في التداخل القبلي (أكثر من 13 قبيلة) منها قبيلة الزغاوة التي ينتسب إليها الرئيس (إدريس دبي) وكبار أعضاء حكومته، وينتسب إليها أيضاً معظم عناصر المجموعات المتمردة في دارفور الآن، وقد تأثرت المنطقة بالصراع التشادي الليبي خصوصاً حول منطقة (أوزو) وبالصراعات الداخلية لأفريقيا الوسطى، وهو ما ساهم في تدريب وتسليح بعض القبائل ضد بعض وفي رواج تجارة السلاح، وهو الأمر الذي سيلقي بظلاله على الاستقرار الأمني والسياسي لتشاد ودولة أفريقيا الوسطى، وهو ما سبب القلق لفرنسا ودفعها للتدخل لاحتواء الموقف
إن حركة التمرد في دارفور حركة ناشئة لم تتبلور بعد، ويمكن ـ بسهولة ـ سرقتها أو توجيهها بما يؤثر على مستقبل السودان والمنطقة؛ كما ان نجاح تمرد دارفور سيعطي دليلاً وبادرة لتقسيم السودان وهو ما يغري جهات عديدة بالوقوف خلف الأحداث. لقد كشف (الصادق هارون) أحد القيادات المنشقة عن حركة تحرير دارفور (لصحيفة البيان، 4/1/2004م) عن لقاء مسلحي دارفور مع مسؤولين إسرائيليين بتنسيق إريتري في مقر السفارة الإسرائيلية بإحدى دول غرب أفريقيا الذي تمخض عن تمويل إسرائيلي للتمرد.
` حقيقة الأحداث:
ليس من السهل تقصي الحقيقة الكاملة لأحداث دارفور؛ لأنه لا أحد من أطراف الصراع يرغب في ذلك، إلا أنه يمكن تقديم بعض الإضاءات التي تكشف جوانب مهمة من القضية.
في ظل الوضع المتوتر أصلاً للمنطقة منذ عام 1998م، وفي ظل الهدوء الذي تشهده الجبهة الجنوبية والشرقية وتواتر أنباء تقدم مفاوضات تقاسم الثروة والسلطة في نيفاشا، وبعيد انشقاق المؤتمر الشعبي وما تبع ذلك من ترويج لثقافة (الكتاب الأسود) والاستقطاب الجهوي القبلي.. بدأت الأحداث ـ برأي معظم المراقبين ـ بنزاعات قبلية محدودة حول منطقة (يوتي) التي تتبع جبل مرة (أخصب مناطق الإقليم) في يونيو 2000م، ولكنها لم تلبث أن اتخذت وضعاً أكثر عنفاً وجرأة باحتلال محلية (قولو) في 19/7/2002م، وقد صاحب هذه النزاعات أعمال عنف وتقتيل وتشريد وحرق للقرى طالت في معظمها قبائل الفور والزغاوة، وقد دفعها بطء التدخل الحكومي إلى تشكيل مجموعات مسلحة تعرف محلياً بـ (الميليشيات) لصد هجمات المجموعات المسلحة التي تنتسب لما يعرف بالقبائل العربية والتي تسمى محلياً بـ (الجنجويد)؛ وهكذا توسعت امتدادات وأهداف هذه (المليشيات) لتكـون لاحـقــاً ما ســمي بـ (حركة تحرير دارفور) في فبراير 2003م، ثم أعلنت الحركة في مارس 2003م عن تغيير اسمها إلى (حركة تحرير السودان) عبر بيان مقتضب صيغ باللغة الإنجليزية. بعد ذلك بأيام أعلن د. خليل إبراهيم (القيادي بالمؤتمر الشعبي) من لندن في بيان صدر بالإنجليزية عن تكوين (حركة العدالة والمساواة) وعن تبنيها لتمرد (جبل مرة)، ثم تلا ذلك إعلان آخر باسم (حزب التحالف الفيدرالي) بقيادة أحمد إبراهيم دريج، ود. شريف حرير تبنى فيه أحداث الجبل، ولكن الحزب تراجع لاحقاً ونسب العمليات إلى تحالف عريض من أبناء دارفور.
إن من الواضح أن أحداث الجبل كانت أقرب إلى حركة احتجاج وعصيان محدودة؛ كما أن من الواضح أن هناك جهات عديدة تسعى لسرقة الحركة وتوظيفها والمتاجرة باسمها. ورغم الاختلاف الكبير بين هذه المجموعات إلا أن مؤتمر (هنتجن) بألمانيا كشف مدى التنسيق فيما بينها.
وهكذا توالت العمليات لتصل لمناطق (طور).. (الطينة).. (مليط) ثم أحداث (الفاشر) المشهورة في 25/4/2003م، ثم منطقة (كتم) مما عجّل بتدخل عنيف للجيش السوداني واستخدامه ـ أحياناً ـ للتباينات القبلية لوقف هجمات المتمردين.
وبعيداً عن المزايدات السياسية فإن مطالب المجموعات المتمردة هي مطالب غامضة وغير منضبطة رغم أن لبعضها أصلاً مقبولاً. فأول الأمر كان غرض إنشاء المجموعة المسلحة هي الحماية وصد الهجمات، ولكن التصريحات والبيانات والعمليات التالية وجهت رسائل مختلفة جداً: أحاديث عن طرد ما يعرف بالقبائل العربية عن الإقليم، أو عن محاسبة الحكومة الحالية عن ضعف التنمية والخدمات منذ الاستقلال، أو عن تقرير المصير والاستقلال عن السودان، أو عن عودة سلطنة الفور، أو عن إعادة تعيين منصب رئاسة الجمهورية على أساس عنصري، أو عن الوزارات السيادية التي لم تكن من نصيب الإقليم، أو عن المطالبة بما يشبه اتفاق (نيفاشا) مع الحركة الشعبية المتمردة؛ بل هناك من يدعو لتكوين (السودان الجديد) انطلاقاً من دارفور. ولا شك أن هذه المطالب ستتوسع أكثر حين تنضم جهات أخرى لتصطاد في الماء العكر.
` المصير والمستقبل:
إن استمرار الحرب سيلحق أذىً جسيماً بمقدرات الإقليم البشرية والمادية، وسيحدث جرحاً لا يندمل بين المسلمين من أبناء هذا البلد، وسيعقد كثيراً من فرص الحل وإعادة الأمور إلى نصابها.
إن الفرصة مواتية لتدارك الأمر قبل أن يخرج عن السيطرة أكثر فأكثر، والأمر يحتاج لتدخل عاجل يستنهض همم قادة المنطقة وعقلائها لحقن الدماء ولجم الخيول حتى تنقطع الفتنة ويهدأ أوارها، ويحتاج ذلك إلى قرار شجاع من جانب الحكومة للتعامل بحكمة مع الموقف والتفاعل مع المطالبة (الموضوعية) لأبناء الإقليم وتعزيز مؤسساتها وهياكلها هناك، ويحتاج إلى تكاتف اجتماعي يقوده العلماء وقادة الرأي وأهل الحل والعقد، للأخذ بالأمر إلى ما فيه خير البلاد والعباد.. يحتاج لوقفة حاسمة لصد أطماع كل من يريد سوءاً بهذه البلاد وكف أيديهم عن العبث بمكتسباتها... يحتاج لتنكيس الرايات العنصرية والجهـوية والعصبــية المنتنة التي لا ترضــي الله ولا رســوله ولا المؤمنين.. ويحتاج الأمر على المدى البعيد إلى العمل الدؤوب لرفع الجهل والفقر والمرض عن تلك المناطق التي كانت ـ ونأمل أن تظل ـ قلعة حصينة للإسلام

دار (فور): تحت أضواء السياسة الشرعية
18/6/1425
إبراهيم الأزرق
دار (فور) أرض إسلامية تابعة لبلد من بلدان المسلمين غفل عنها المسلمون زماناً ثم أفاق (بعضهم) اليوم على أصوات تهديدات صليبية بنزعها، أفاقوا ليجدوا تلك السلطنة الإسلامية على مر القرون السالفة مهددة من قبل منظمات مشبوهة بنزع الهوية الإسلامية من سكانها البسطاء .فهل تسلب هويتها الإسلامية حقاً؟ وهل تنتزع تلك الرقعة من بلاد المسلمين قريباً؟
أسباب المشكلة:يرى كثير من المحللين أن السبب الرئيس هو تفاقم مشكلة الموارد البيئية المحدودة المتنازع عليها بين الرعاة –وأغلبهم من أصول عربية- والزراع –ومعظمهم من أصول أفريقية.
وقد امتدت أياد مشبوهة سوداء وبيضاء وسمراء على حد سواء فساعدت على تفاقم المشكلة واستفحالها بل وتحولها إلى كارثة إنسانية.
ولعل تلك بعض الأسباب المعتبرة بَيْدَ أن غيرها من الأسباب لاينبغي أن يغفل، فالأيادي الثلاثة السالفة والتي كان لها دورها في إشعال المنطقة، كانت لها مبرراتها ودوافعها المرتبطة بمصالح غربية أو مصالح سياسية تدور حول كرسي الرئاسة!
ولهذا فإن من العدل والإنصاف بل من واجب النصح والإرشاد حيال هذه القضية أن نعرض لبعض الأسباب المؤثرة بغض النظر عن ما وراءها من مبررات مرضية أو غير مرضية لتؤخذ في الاعتبار عند البحث في علاج الأزمة.
ولعل الناظر في واقع البلاد يجد أن من جملة أسباب تفاقم المشكلة ما يلي:
- تهميش تلك المنطقة، ولا أعني بتهميشها التهميش الاقتصادي المبني على نظرية ارتباط حاسة سمع الشعوب بالشبع! فمثله يمكن أن يبرر بالحالة الاقتصادية المتردية للبلاد بأسرها، ولكن شمل التهميش مشاكلها التي كانت في يوم من الأيام صغيرة لا يلتفت إليها، أو على الأقل لم يلتفت إليها كما ينبغي إلاّ فترات بعض الولاة السالفين، مع أن من أولويات عمل الحاكم المسلم إحقاق الحق وإقامة العدل، وإذا كان التهويل الغربي لما آلت إليه الأوضاع ممقوتاً فكذلك التهميش الرسمي لما كان يحصل من انتهاكات لايمكن قبوله، ولئن كان العجب لايتناهى من مبالغات الغربيين المفضوحة، فإنه لايمكن أن يزول عن بعض التقارير التي تنفي وقوع ولو حادثة اغتصاب واحدة مما تشير إليه التقارير الغربية، ونحوها مما لاينكر وقوعه حتى في قعر العاصمة.
- ومن الأسباب عمل بعض منظري الأسلمة في سبيل المصلحة التي يراها! على تشريع أو تبرير بعض النعرات الموجودة كسلاح للضغط من أجل تحقيق بعض المصالح، ولئن لم تكن هناك أدلة قاطعة تربط الكتاب الأسود مثلاً برموز وأشخاص فإن من عايش واقع عامة أتباع الرموز والرؤوس يرى رضاهم بما جاء فيه وحرصهم على توزيعه وتداوله، وأياً ما كان لو لا عمل بعض المسلمين على إثرات نعرات عنصرية لتحصيل مكاسب سياسية لولا تلك الفتنة لما استمرأ الكثير المسلم إثارة القلاقل والخروج عن سلطان الدولة بحجة ظلم فئوية أو جهوية. إن من أخطر مايهدد الكيان المتماسك تلك الدعوات الخاطئة التي يتستر أصحابها بمسوك الشريعة والعدل، وينجم الشر عندما يكون أصحابها من هشيم ذلك الكيان أو أجزائه، ويتفاقم الأمر يوم يكون معهم شيء من حق.
- ومن الأسباب الاستبداد بالرأي من قبل حزب وإن كان حاكماً غير أنه لايمثل من شرائح المجتمع وألوان الطيف الإسلامي غير القليل، وقد بدا من أحداث التاريخ المعاصر أن الغربيين يستمرئون الضغط على الثلل المستبدة بالدول، فإذا كان القرار بيد رجال معدودين أمكن الضغط عليهم، بخلاف الدول التي يكون قرارها بأيدي شعوبها ولاسيما أهل الحل والعقد منهم الذين لايخضعون لغير سلطان الشريعة. قد يقول قائل لايتوقع من أي دولة أن تذهب فتستشير ربات الخدور؟ وهذه شنشنة دأب دعاة الاستبداد الذين لايحترمون العقول على طرقها، ومرادهم إيهام الناس بأن الخيارات اثنين لاثالث لهما! إما أن تشاور كل صغير وكبير، وإما أن تتفرد بالرأي وتعتز به! أَمَّا أَنْ يكون القرار بيد حملة مشعل الشريعة من العلماء الذين يقدرون المفاسد والمصالح تحت أضوائها، وكذلك من يملكون تعبأة المجتمع من الفصائل الأخرى ونحوهم ممن يراعون المصلحة القومية، ليتحمل المجتمع كاملاً تباعته عن قناعة، فخيار يأتي بعد تأزم الأوضاع واستفحال الداء.
إن البلاد الإسلامية يغلب على مجتمعاتها الطابع الإسلامي الذي من سمة أهله الانقياد إلى حملة الشريعة العدول، ومهما اتفق هؤلاء كان معهم السواد الأعظم، أو الأغلبية الشعبية الساحقة، وعلى الرغم من تباين رؤى قادة الإسلاميين في مسائل كثيرة فرقتهم وأذهبت ريحهم، فإن دواع الاتفاق على القضايا المصيرية موجودة، ولذا يصعب تبرير استبداد طائفة منهم بالرأي في قضية يتحمل الجميع تبعاتها.
- ومن الأسباب انطواء القطاع العريض من الإسلاميين وتقوقعه في مكان قصي واضعاً رأسه في التراب، أو مكتفياً بكيل الشتائم والسباب للطائفة المستبدة، متذرعاً بين الفينة والأخرى بأشغال يجعلونها أولويات مقدمة على مهددات الدين والنفس والمال والعرض! معتذرين بما لاسبيل لهم إليه عن ما لهم إليه سبيل، وما أكثر ما يعتذر الناس بعدم توفر مقومات العمل، مع أنهم لو سعوا حصلوها! (ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم)، وإلاّ فأين المشاريع وأين الدراسات وأين البحوث التي تبين أن ما بالوسع مبذول، وتثبت صحة العذر، ألا يمكن أن يتدارك بها شيء من الأمر يوم يفيق المستبد؟
إن من إشكالات المقاومة في أحيان كثيرة عدم وجود تنسيق بين قياداتها، وعدم انسجام رجالاتها مع أنهم يبذلون نفوسهم في سبيل هدف واحد ولكن ليس ثمة ميثاق محرر مشترك ورؤية واحدة محكمة تجمعهم ومن ثم تتشتت الجهود وتتباين الاجتهادات. ولعل من أعظم أسباب ذلك أن المقاومة تجيء في ربوع عالمنا الإسلامي كردة فعل لواقع المحتل الماثل، ردة فعل غير مرتب لها مع أن الخطر متوقع مترقب! ولعل من أسباب ذلك عدم تصور أن نقاط الاختلاف يمكن تجاوزها ولو مرحلياً في سبيل توحيد الجهود ضد عدو مشترك درء خطره أولى من منابذة غيره في ذلك الوقت، فهل نعي هذا الدرس المتكرر فنخرج من تقوقعاتنا وذواتنا إلى حيز عمل مشترك يكفل تجاوزاً لمحنة مرتقبة قبل وقوعها؟
إن ترك ما بالوسع بحجة عدم القدرة على ما ورائه يناقض التحرق الذي يبديه كثيرون تجاه قضايا الأمة! قد يعذر المسلم البسيط الذي خرج في مظاهرة حاشدة .. يصف الحُكّام بالخيانة والعمالة ويطالب بفتح الحدود ليذيق العدو الصهيوني الوبال، مع أنك لو فتشته لم تجد معه غير قبضتيه التين أكل منهما الدهر وشرب! ولعله نظراً لاشتغاله بالأمور الحياتية لم يجل بخاطره يوماً أن يؤهل جسده ويعد نفسه فضلاً عن أمته لجهاد يتحرق له! فتكون النتيجة أن يعيش المسكين بهمه طول عمره لايصنع شيئاً وإنْ أُتِيحت له فرصة! ولئن عَنَّّتْ لمثل هذا المسكين سانحة فابتدرها بقبضتيه الخاليتين لمثل عبئاً على أهل المقاومة أو جرحاً جديداً أوهَمَّا يضاف إلى هموم الأمة. إن أمثالي وأمثال هذا المسلم البسيط قد يعذرون وقد لايعذرون، ولكن هل يعذر القادة وبالأخص قادة العمل الإسلامي عندما يتصرفون بنفس تلك الطريقة الساذجة!
استشراف المستقبل:
(قل لايعلم من في السماوات والأرض الغيب إلاّ الله) غير أن معطيات الواقع ونواميس الكون تجعلنا نمد الأعناق في محاولة لرؤية القادم وفقاً لدلائل وعلامات، والذي ينظر في أرض الواقع يجد الحقائق التالية:
1- أمريكا لاتريد خيراً بالسودان العربي المسلم بالأغلبية، والذي لم يخضع لها حق الخضوع، وهذا لايتوائم مع العقيدة البروتستانتية في أرض (كوش)، ولا المصالح الأمريكية في الموارد النفطية والمائية والرعوية والزراعية في أرض لاتزال بكراً شغلت الناس عنها الحروب المتتالية التي أشعل فتيلها المحتل البريطاني قبيل خروجه، بل نوقن بأن أمريكا تتربص بالسودان الدوائر، ولهذا لم تيأس بعد أن خرج من شراكها في الجنوب بشق الأنفس ولم ترحم ما أصيب به في ذلك الشرك من ثلمات وكدمات ربما تُشفى، فسارعت بنصب فخ آخر فوضعت السودان داخل سرب طويل يضيق يوماً بعد يوم وهاهي ذي الحكومة السودانية تحاول جاهدة الخروج مع أن جراحات الشرك الأول لم تندمل بعد، كما أن العمل على نصب شراك في الشرق جار على قدم وساق تحت رعاية دول الجوار.
2- الولايات المتحدة تعمل عملاً دؤوبا على إخراج قواتها من العراق بعد أن اطمأنت على مصالحها، ونصبت الحكومة التي تريدها وتأكدت من امتلاك البنية التحتية للدولة الجديدة. ومن المتوقع أن يتكرر سيناريو الخروج من أفغانستان إلى دولة لها فيها مصالح أخرى، على أن تبقى بعض فلول المرتزقة الأمريكية لحفظ رؤوس حراس مصالحها، وربما توكل هذه المهمة إلى هيئة دولية للعرب فيها حظ مقدر! وعندها يمكن إقناع المجتمع الأمريكي بتوظيف مرتزقة آخرون في حرب أخرى تخدم المصالح الأمريكية أو الصهيونة، ولعل الخيارين الأقرب في الوضع الراهن سوريا والسودان، ففي أيهما توفرت الذرائع بدئ به، وبعد الخلاص منهما مع العمل الدؤوب على "محاور شر"! أخرى يتوقع أن تكون الظروف مواتية لإخضاع كل من طهران فالقاهرة ثم النيل من الرياض فشرقي الديار السعودية.
3- لايحتاج السودان إلى طول حصار أو عقوبات حتى تخور قواه الاقتصادية والعسكرية، ومع وجود فئام من أبناء بلده يمكن توظيفهم لخدمة أهداف المحتل، فإن الخسائر الأمريكية لن تكون ذات بال، خاصة إذا انضم إلى متمردي الغرب متمردي الجنوب، مع مشاغبات أرتريا وتجرؤها على التخوم الشرقية للبلاد السودانية.
ولعل تلك وغيرها مؤشرات كافية تبين أن ثلاث سنوات إلى خمس -كحد أعلى- من العقوبات الاقتصادية وتدبير المؤامرات المتواصل كفيل بتمهيد للاجتياح سهل يعم أرجاء السودان، إلاّ أن يقض الله للبلاد أمر رشد بمنّه.

لكن:
1- السودان بلد مترام الأطراف، وإدارته تتطلب طاقماً ضخماً من الرجال المؤهلين ذوي الخبرات والاختصاصات المتنوعة، فلا يمكن أن يعول الغرب على أبناء الجنوب أو دار فور وحدهم من أجل إدارته خاصة مع مناصرة نسبة مقدرة من أبناء تلك البقاع للخرطوم وبالأخص أبناء دار فور. إضافة إلى شح الكادر المؤهل في تلك المناطق وبالأخص في الجنوب.
2- مازالت المبررات لاجتياح الخرطوم اجتياحاً (خارجياً) كاملاً وتغير نظام الحكم فيها بالقوة، محدودة في الوقت الراهن، خاصة وأن نزع سلاح مليشيات الجنجويد في الغرب لايستلزم ذلك، ولاسبيل إلى أن يتم إلاّ بأياد سودانية تنطلق من دار فور وتساندها أيدي جنوبية تحت مظلة أمريكية مستنيرة ببعض من لاخلاق لهم من العملاء، والأيسر هو خيار فصل بعض بقاعه ذات الأثر المحدود على مصالح الدول العربية، كخطوة ابتدائية وراؤها ما بعدها.
3- بعض الدول العربية ذات الوزن المقدر تعي تماماً أن تهديد تقسيم السودان أو السيطرة على الخرطوم تهديد حقيقي لها، فسوريا تعلم أن اليد الصهيونية تشير إليها والعين الأمريكية ترمقها فإن لم تُتخذ مواقف حاسمة فيوشك أن يمتد السوء إليها، ومصر تعي بأن التحكم في الخرطوم تحكم في ثروتها المائية، بالإضافة إلى وضعها بين فك كماشة صهيونية، وسبيل إلى فرض إملاءات أمريكية، وعندها يمكن تطويعها لخدمة المصالح الغربية، لا الرجوع إليها واستمالتها بالمغريات لما له من نفوذ في المنطقة، كما أن قطاعاً شعبياً عريضاً من المجتمع السعودي الرسالي يرى في إسقاط الخرطوم إسقاط لتجربة إسلامية، وعمق استراتيجي مهم للدعوة الإسلامية في القارة الإفريقية.
والمطلوب:
1- أن تتعامل الحكومة مع الأزمة تعاملاً رصيناً مدروساً، بعيداً عن الآراء الأحادية سواء على نطاق الحزب أو الأفراد، وإن مما يؤسف له في هذا الصدد أن يتناقل الإعلام بعد لحظات من صدور قرار مجلس الأمن رقم 1556المتعلق بمهلة الثلاثين يوماً، رفض الحكومة له ثم يأتي بعيد هنيئة التصريح بقبوله والعمل به! ولاشك أن الموقف متأزم غير أن ضبط النفس مطلوب بل واجب وبخاصة من المسئولين، ولاينبغي أن يعذر الناس بحسن القصد في هذه القضايا المصيرية، بل يجب التعامل مع المتسرعين بحسم ممزوج بحكمة لاتفارقه.
2- الثبات على المبادئ الشرعية، والحرص على مقدرات البلاد، وعدم التنازل لمصالح متوهمة بحجة أنها قد تصرف سوءً، فقد أثبتت الأحداث أن الغرب يُحَصِّلُ مكسباً لينتقل إلى آخر ولايرضيه تنازل، ثم إن الصبر على الأذى والثبات على الحق هو الأصل، فلا يُصار إلى غير ذلك ولايُتعلل بالإكراه، إلا إذا تحقق الإكراه بالفعل وليس لمجرد التهديد أو الوعيد، ولا شك أن مراعاة المصالح والمفاسد أصل عظيم في هذا الشأن، ولكن المصلحة ليست مطلقة بل لها ضوابط منها:
- أن تكون المصلحة الدينية هي المعتبرة أو المقدمة.
- أن يكون تقريرها من أهل الحل والعقد الشرعيين.
- أن تقدر الضرورات بقدرها، فلا يصبح الاستثناء هو القاعدة.
3- العمل على استعداد دؤوب لمواجهة مرتقبة محتملة، وإعداد كل ما بالوسع للخروج من براثن الوحش الغربي، وعلى رأس ذلك التعبئة العسكرية المبنية على بث الحماس والتفاؤل ولكن بواقعية بعيداً عن الجعجعة بعبارات تملأ الأفواه ولاتحقق على أرض الواقع غير نتائج سلبية، وإذا كان السودانيون يبغون الخلاص "من براثن الوحش الغربي، فهناك طريق واحد لا تتشعب فيه المسالك، وهو أقرب طريق؛ أعرف نفسك وراجع قواك، واستعد للصراع، وابدأ في الكفاح، ولا تستمع إلى صوت خادع يوسوس لك بالثقة في ضمير الغرب المدخول. وأما إذا كنت تبغي الراحة والسلامة تحت رحمة وبراثن الوحش الغربي برهة إلى حين فترة، فأمامك طرق كثيرة ذات شُعب ومسالك، وذات منعرجات ودروب. وحينها بإمكانك أن تخلد للمفاوضات، والمحادثات، وجس النبض واستطلاع الآراء. وتركن للدبلوماسية الناعمة الرقيقة، والكلمات الظريفة، وهناك الانتظار الذي لا ينتهي، والاستجداء الذي لا يغني. وهناك المؤتمرات الحافلة، والموائد المستديرة" التي سوف تؤكل عليها في خاتمة المطاف! وقد ثبت أن الساسة الغرب فيهم نسبة مقدرة من أكلة اللحوم المسلمة.
4- الاستفادة من الدول العربية التي ترتبط مصالحها بالسودان وتقع معه تحت طائلة التهديد الأمريكي، والعمل على تفعيلها للخروج بموقف عربي قوي! وحتى نكون واقعيين منطقيين فليس المراد بالموقف العربي القوي سوى عدم مد يد عربية ظاهرة أو خفية للعدو الذي سوف يمد يده طالباً يد العون من العرب أهل المروءة والفزعة. ولاشك أن خذلان العرب له! مكسب كبير وفقاً لمعطيات واقعنا المعاصر.
5- اجتماع الإسلاميين في السودان –وهم كم مقدر- على كلمة سواء وتنسيق مشترك من أجل إسهام فعال للخروج من الأزمة والتخطيط لتطوراتها، فالتيار الإسلامي في السودان له كم مقدر من القوى البشرية نظراً لانفتاح الدولة وحرية الدعوات فيها، كما أن كثيراً من اتجاهاته تمثل امتداداً لتيارات متعددة لها وزنها الشعبي في العالم الإسلامي، وهذا بدوره كفيل بأن يجعل التنسيق تنسيق شعبي عالمي على مستوى العالم الإسلامي، والمشكلة أن هذه التيارات يعوزها التنسيق فيما بينها ولاسيما في مثل هذه القضايا المشتركة التي يمكن من الناحية النظرية أن تتفق عليها، ولذا فإن الواجب على روؤس تلك التيارات عظيم والمسؤوبية جسيمة، ولعل كثيراً منهم له من الوعي والإدراك ما يؤهله لتفهم ذلك.
6- الحرص على إقامة العدل، في سائر المناطق المهمشة سواء في الغرب أو الشرق أو الشمال، فلتكن الأزمة دافعاً لإحقاق حق ربما ضاع بعضه في دار فور، والحذر الحذر من أن تقود الأزمة لظلم في الشرق أو العاصمة أو الشمال، فإن عاقبة الظلم وخيمة حيث كان، وبالعدل تقوم مصالح البلاد والعباد على استقامة.

وفي الختام أذكر بوصية الله للعالمين بتقواه، (وإن تصبروا وتتقوا لايضركم كيدهم شيئاً إن الله بما يعملون محيط).

دار فور 000 التاريخ والجغرافيا


دار فور .. الجغرافيا والتاريخ
1425/6/15
إعداد / همام عبد المعبود
يقع إقليم دارفور، أكبر أقاليم السودان، أقصى غرب السودان، وتمثل حدوده الغربية الحدود السياسية للسودان في تلك الجهة مع ليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى وتشاد. وتبلغ مساحة إقليم دار فور أكثر من نصف مليون كيلو متر مربع ( 510 ألف كيلو متر مربع)، حيث تمثل مساحته خمس مساحة السودان ( ‏20%‏ من مساحتها)، وتسكنه عرقيات إفريقية وعربية؛ أهمها "الغور" التي جاءت تسمية الإقليم منها، و"الزغاوة"، و"المساليت"، وقبائل "البقارة" و"الرزيقات".
وتعتبر قبائل المساليت و فور والزغاوة من أكبر الجماعات العرقية الأفريقية التي تسيطر علي دارفور، ولأبنائهما تاريخ طويل من الصراع حول الأراضي وحقوق الرعي مع الرعاة من القبائل العربية‏,‏ فإن هذا الصراع لم يظهر بصورة واضحة حتى السبعينات بفضل وجود آليات تقليدية لحل المنازعات‏,‏ وجدت نتيجة القوانين الموروثة من عهد الإدارة المصرية‏(1898‏ ـ‏1956).‏
ونظرا للمساحة الشاسعة للإقليم وضعف الحكومات المركزية في الخرطوم فقد انتشر السلاح في الإقليم وتفاقمت النزاعات القبلية ‏.‏ ويبلغ عدد سكان إقليم دار فور نحو‏6.7‏ مليون نسمة، وجميع سكانه مسلمون "سنّة"، وقد انقسم الإقليم منذ عام ‏1994‏م إلى ثلاثة أقاليم متجاورة ومختلطة الأعراق‏ وهي الغرب والشمال والجنوب‏، و تبلغ نسبة الجماعات الإفريقية نحو‏60%‏ بينما تبلغ نسبة العرب الـ ‏40 %‏ الباقية‏.
ويقطن في الريف ‏75%‏ من سكان دارفور، بينما يمثل الرعاة الرحل حوالي‏ 15%‏، والباقون يقيمون في بعض المدن، مثل الفاشر، ونيالا، وزالنجي . وقد انضمت منطقه دارفور إلى السودان عام‏ 1916‏ إلا أن ذلك لا يعني أنها لم تكن تابعة للسودان قبل ذلك، حيث إنها خضعت للعهد المصري من خلال الزبير باشا ود رحمة في الفترة من ‏1884‏ إلى ‏1898‏، ثم دانت للدولة المهدية من ‏1884‏ إلى‏ 1898‏، وبقيت مستقلة كفترة انتقالية قصيرة في الفترة من ‏1898‏ إلى ‏1916‏ تحت حكم السلطان علي دينار إلى أن عادت للخضوع للحكم الثنائي منذ عام‏ 1916‏ وحتى استقلال السودان عام ‏1956.‏
ويعاني السودان من مخاطر كبيرة تهدد كيانه المستقل وتؤجج الإثنيات‏,‏ والعرقيات المتعددة والتي يصل عددها إلي‏572‏ عرقية تلك المخاطر خاصة مع وجود أكثر من‏30‏ حركة تمرد في السودان تسعي جميعها للانفصال وتكوين دويلات مستقلة مما يعني في النهاية انتهاء وحدة البلاد‏.‏ وتنقسم القبائل في دارفور إلى قسمين هما : "القبائل المستقرة" وهي تلك القبائل الموجودة في المناطق الريفية مثل: "الفور" و"المساليت" و"الزغاوة"، و"الداجو" و"التنجر" و"التامة"، وغالبيتهم من الأفارقة، ويتكلمون لغات محلية إضافة إلى العربية، وبعضهم من العرب، والقسم الثاني هو: "القبائل الرحل" وهي تلك القبائل التي تتنقل من مكان لآخر بحسب وجود الماء والرعي، وهي قبائل وفدت للمنطقة مثل : "أبالة" و"زيلات" و"محاميد" و"مهريه" و"بني حسين" و"الرزيقات" و"المعالية"، و غالبيتهم عرب يتحدثون اللغة العربية، ومنهم أيضا أفارقة.
جذور التمرد والتمرد في دارفور جذوره تاريخية وتعود لمئات السنين، والغريب أنه لم ينجم عن اضطهاد عرقي ولا اضطهاد ديني ولكنه نتج عن موقع دارفور المتاخم لتشاد ومصر وليبيا وأفريقيا الوسطي مما جعلها منطقة للقبائل الرحل مثل قبيلة الزغاوة التي عرفت بالترحال‏,‏ والقتال ولكنها استقرت في دارفور منذ عدة قرون بعد أن اعتنقت الإسلام وتحول أفرادها إلي التحدث بالعربية ومع ذلك ظلت مصدر قلق نظرا لقوة وشراسة أبنائها، وعليه فإن أكثر من 85% من الصراعات القبلية في السودان يدور في دارفور .
وعلاوة علي التمرد في الجنوب فإن السودان به نحو‏30‏ مجموعة متمردة تتوزع علي معظم الأقاليم تقريبا منها المجموعات التي تنتمي للبيجا في الشمال الشرقي وهم من المسلمين الصوفيين وولشيلوك والنوبة‏,‏ ودارفور علاوة علي حركات التمرد الجنوبية‏,‏ والتمرد في أعالي النيل‏.‏ والأمر في السودان لا يقتصر علي دار فور فحسب، فمنذ عام ‏1983‏ تشهد مناطق عديدة في السودان وبينها جبال النوبة التي تمتد علي مساحة ‏80‏ ألف كيلومتر في وسط السودان حربا أهلية بين المتمردين في تلك المناطق والحكومات المتعاقبة في الشمال ‏.‏ وقد حصدت تلك الحروب أرواح أكثر من مليوني شخص‏.‏ ومازال سكان جبال النوبة يطالبون بحكم ذاتي يعقبه استفتاء لتقرير المصير‏.‏
أما في جنوب السودان التي تعد من أكثر المناطق طلبا للانفصال بقيادة جون جارانج فقد كان الغزو الإنجليزي للسودان وإقامة الحكم الثنائي فيه هو بداية التحول في تاريخ جنوب السودان إذ مهد الطريق للدول الأوروبية لدخول السودان وسعي الحكم الأجنبي الاستعماري منذ البداية جاهدا لمحاربة الإسلام والحد من انتشار اللغة العربية وكان من الواضح أن هذه السياسة تسعي إلي فصل الجنوب عن الشمال بإيهام الجنوبيين بأنهم مضطهدون من قبل الشماليين ووضع العديد من السياسات لبث التفرقة بين الشمال والجنوب. وهناك أيضا مشكلة في شرق السودان‏,‏ وتمرد من قبائل البجا‏, ‏وتتهم الحكومة السودانية اريتريا باستغلال مجموعات من البجا لإثارة قلاقل في تلك المنطقة وذلك بهدف ممارسة ضغوط علي الحكومة السودانية خاصة في ظل توتر العلاقات بين البلدين‏.‏
أصل الحكاية كانت أسباب النزاعات في دارفور ترجع دائمة لأسباب طبيعية مثل الاختلاف علي الرعي والأرض‏,‏ وليس لأسباب عقائدية لأن سكان دارفور كانوا منذ دخولهم الإسلام مخلصين له‏,‏ ومن اجله حاربوا في صفوف الخلافة العثمانية خلال الحرب العالمية الأولي مما جعلهم عرضه لانتقام بريطانيا بعد الحرب وشهدت دارفور التمرد تلو الآخر منذ الستينات من القرن الماضي بإيعاز من أبناء الإقليم المقيمين في الخارج فكان هناك تمرد حركة سوني وتمرد جبهة نهضة دارفور‏,‏ وجبهة الدكتور دريج وحرير وأخيرا تمرد حركة العدل والمساواة وحركة تحرير السودان والتحالف السوداني الديمقراطي الفيدرالي‏,‏ وهذا الأخير كان محركه الأول هو الرغبة في اقتسام عائدات البترول برغم ان الديون الخارجية للحكومة المركزية تصل إلي ‏24‏ مليار دولار بينما يبلغ إجمالي عائدات البترول السنوية ملياري دولار‏,‏ ومما يؤكد ذلك أن هذا التمرد لم يظهر إلا بعد ظهور البترول في جنوب ووسط السودان‏.‏
وفي العقود الأخيرة تكاتفت عدة عوامل وأدت إلي اشتعال الصراع بصورة واضحة‏,‏ وأهم هذه العوامل :- 1- فترات القحط والجفاف‏.
2- التنافس علي الموارد الضئيلة‏. 3- سهولة الحصول علي الأسلحة وهو ما أدى إلي إراقة المزيد من الدماء في نزاعاتهم المحلية.
4- إلي جانب عامل سياسي مهم حدث في عام ‏1994‏ عندما أعيد التنظيم الإداري لإقليم دارفور وتم بمقتضاه منح أفراد الجماعات العرقية مناصب في السلطة‏,‏ وهو ما رأته طائفتا المساليت و فور بمثابة تقويض لدورهما في الإقليم الذي يشكلان أغلبية سكانه‏. كل هذه العوامل السابقة أدت إلي اشتعال الصراع‏,‏ حيث نشبت الاشتباكات الطائفية المسلحة في غربي دارفور وغيرها في عامي ‏1998,‏ و‏1999‏ حين بدأ العرب الرحل في النزوح مع قطعانهم نحو الجنوب قبل الوقت المعتاد‏,‏ ونتيجة لذلك اندلعت الاشتباكات بين الطائفتين‏,‏ حيث أحرق ما يزيد على ‏60‏ قرية من قري طائفة ‏(‏مساليت‏),‏ وقرية عربية واحدة ‏..‏ كما قتل ما يقرب من‏ (69)‏ من أبناء المساليت في مقابل‏ (11)‏ عربيا‏,‏ ونزح نحو ‏(خمسة آلاف)‏ من أبناء المساليت إما إلي بلدة ‏(جنينة‏)‏ أو‏(‏ تشاد‏).
ورغم المصالحة والاتفاق علي دفع تعويضات للجانبين عن طريق زعماء القبائل المحلية‏,‏ إلا أن الاشتباكات تجددت في عام ‏1999‏ عندما نزح الرعاة الرحل مجددا نحو الجنوب قبل الوقت المعتاد لذلك‏,‏ واتسمت الاشتباكات في ذلك الوقت بالمزيد من سفك الدماء‏,‏ حيث تعرضت ‏125‏ قرية من قري المساليت للإحراق والهجمات‏,‏ وسقط العديد من القتلى والجرحى‏,‏ وكان من بين القتلى عدد من زعماء القبائل العربية‏,‏ وتدخلت الحكومة السودانية عسكريا‏,‏ وتم عقد مؤتمر مصالحة آخر تم فيه الاتفاق علي تعويض خسائر طائفة مساليت وخسائر العرب‏.‏ وفي أوائل عام ‏2003‏ دخل الصراع منعطفا جديدا‏,‏ حيث قام متمردون من جيش التحرير السوداني وحركة العدل والمساواة بمهاجمة أهداف حكومية في إقليم دارفور متهمين الحكومة السودانية بالتحيز لصالح العرب ضد الأفارقة السود المساليت والفور‏.‏
التنظيمات المسلحة‏ هناك ثلاثة تنظيمات مسلحة في دار فور ترتبط بشكل أو بآخر بالقتال الجاري الآن في دارفور، وتعتبر "جبهة تحرير السودان"‏ وجناحها العسكري "جيش تحرير السودان‏" التنظيم الأكثر نشاطا والذي تنسب له معظم العمليات العسكرية، ويترأسها محامٍ سوداني شاب هو عبد الواحد محمد نور الذي ينتمي إلى قبيلة الفور، بينما يحتل "أركو مناوي‏"‏ موقع أمينها العام، ومعظم القادة العسكريين في صفوف الحركة كانوا ضباطا سابقين في الجيشين السوداني والتشادي.
وتنتقد الحركة التهميش الذي تعرض له إقليم دارفور واستبعاد أبنائه من قسمة السلطة، وانعدام الخدمات الأساسية فيه، كما تنتقد هيمنة ما تسميه بالوسط النيلي على أقدار السودان، وتنادي بحكم ذاتي موسع، وإعادة بناء السودان على أسس جديدة. التنظيم الثاني هو "حركة العدالة والمساواة"‏ التي يقودها‏ "خليل إبراهيم"‏ المقيم الآن في لندن، بينما يقود عملياتها العسكرية‏ "التيجاني سالم درو"‏ وهو ضابط سابق اختلفت المصادر حول هويته الأصلية وهو هل تشادي أم سوداني‏.‏
وتدعو‏ "حركة العدالة والمساواة"‏ إلى فصل الدين عن الدولة وبناء سودان جديد مدني وديمقراطي، كما تتحدث عن تحالف المهمشين ضد سلطة المركز وإتاحة دور أساسي للمهمشين في عملية إعادة الصياغة هذه‏.‏ التنظيم الثالث هو "حزب التحالف الفيدرالي"‏ الذي يتزعمه أحمد إبراهيم دريج، وهو سياسي سوداني من غرب السودان ينتمي إلى قبيلة الفور، وقد لعب دريج أدوارا بارزة في السياسة السودانية منذ النصف الثاني للستينيات إلا أن حزبه بقي جهويا على الدوام يحمل مطالب دارفور.
ومن الواضح أيضا أن المجموعات القائدة للعمليات العسكرية ما زالت في مرحلة تذويب الخلافات العسكرية والسياسية وإن كانت تلتقي مع بعضها البعض، وأيضا مع الحركة الشعبية التي يقودها قرنق في مسعى مشترك -هو محاولة إنشاء حزام أو طوق دائري يعتمد على تجميع الأطراف للقضاء على مركزية الوسط السوداني‏ .‏ وعلى الرغم من أن حركتي‏ "تحرير السودان"‏ و‏"‏العدالة والمساواة"‏ قد قامتا ببعض المعالجات التوضيحية أو التصحيحية لنفي صفة القبلية أو الإثنية عنهما لأنهما يدركان أنهما لا يمكن النظر إليهما خارج سياق الصراع القبلي في دارفور‏.‏
ميليشيات الجنجويد يقصد بكلمة "جنجاويد" : الرجل الذي يركب جوادا ويحمل مدفعا رشاشا، وغالبا ما يرتدون ثيابا بيضاء مثل أهل السودان، ويركبون الخيل، ويهاجمون السكان والمتمردين معا في دارفور .
وعلى حين تتهم حركات التمرد الثلاثة في دارفور ووكالات الإغاثة الدولية الجنجاويد بأنهم أعوان الحكومة وتابعوها، وأنهم عرب يشنون هجمات عنيفة على الأفارقة السود، تنفي الحكومة ذلك، وتقول: إنهم يهاجمون قواتها أيضا . وينسب إلى هذه الميليشيات أنها تقوم بعمليات قتل واغتصاب وتشويه ونهب وإحراق البيوت، وتشريد الأشخاص، وكان نتيجة ذلك أن فر نحو مليون نسمة من ديارهم بينما قتل مالا يقل عن‏ (10)‏ آلاف شخص‏,‏ بالإضافة لتعرض الآلاف لخطر المجاعة في المخيمات .
دار فور مملكة إسلامية كانت دارفور مملكة إسلامية مستقلة تَعاقب على حكمها عدد من السلاطين، كان آخرهم السلطان علي دينار، وكان للإقليم عملته الخاصة وعلَمه، حتى سقطت في الحقبة التركية .
وقد قاوم أهل دارفور الحكم التركي الذي استمر نحو 10 سنوات، كما شهد الإقليم عدة ثورات؛ أشهرها ثورة السلطان هارون التي دحرها غردون باشا عام 1877، وثورة مادبو بمدينة الضعين، وثورة البقارة. وعند اندلاع الثورة المهدية سارع الأمراء والزعماء لمبايعة المهدي ومناصرته حتى نالت استقلالها مجددا. ولم يدم استقلال الإقليم طويلا؛ حيث سقط مجدداً تحت حكم المهدية عام 1884 الذي وجد مقاومة عنيفة حتى سقطت المهدية عام 1898، فعاد السلطان علي دينار ليحكم دارفور.
وعند اندلاع الحرب العالمية الأولى أيد سلطان دارفور تركيا التي كانت تمثل مركز الخلافة الإسلامية؛ الأمر الذي أغضب حاكم عام السودان، وأشعل العداء بين السلطنة والسلطة المركزية، والذي كانت نتيجته الإطاحة بسلطنة دارفور وضمها للسودان عام 1917. وقد تأثر إقليم دارفور -كما يقول الكاتب مأمون الباقر- بالثقافة الإسلامية قبل دخول المستعمرين؛ فأقيمت المدارس الدينية لتعليم القرآن والشريعة الإسلامية، وتم إرسال العديد من أبناء الإقليم إلى الدراسة في الأزهر الشريف؛ حيث خصص "رواق دارفور" منذ تلك الفترة .
ويذكر التاريخ عن السلطان علي دينار أنه كان يكسو الكعبة المشرفة سنويا، ويوفر الطعام لأعداد كبيرة من حجاج بيت الله الحرام، فيما يعرف بـ"قدح السلطان علي دينار" أو "أبيار علي".